كتب /د.علي صالح الخلاقي
7نوفمبر 2020
أشعر بسعادة غامرة وافتتان خاص ومتعة لا توصف وأنا أقرأ بشغف كلما وقع في يدي من النصوص الشعرية الجيدة للكثير من الشعراء الشعبيين المجيدين, ومن بين هؤلاء الشاعر الشعبي الكبير المرحوم محمد بن ناصر مجمل, الذي يعد من أبرز شعراء يافع في القرن العشرين, ومن أكثرهم شهرة وانتشاراً وتأثيراً. فمن هو هذا الشاعر؟
هو الشيخ محمد بن ناصر بن مجمل بن علي بن صالح بن ناصر بن علي بن عبدأحمد بن القِصْمِة بن عبدالباقي بن جلاد الكلدي.
ولد الشاعر في عام 1907م تقريباً, في مسقط رأسه قرية (القود) الواقعة في بطن جبل مَوْفَجَة, الذي يقف بقممه العالية يعانق السحاب ويبدو وكأنه حارسٍ أبدي على هذه القرية الجميلة وبقية القرى الأخرى المنتشرة في بطنه وفي سفوحه,.
نشأ في بيئة شعرية وفي وسط اجتماعي يجل الشعر والشعراء قد كان له الأثر الأكبر في تكون ذائقته ونمو موهبته وقدرته على نظم الشعر والتفوق فيه. فهو سليل أسرة تقول الشعر ولها فيه باع وذراع. فوالده الشيخ ناصر مجمل علي (توفي تقريباً سنة 1346هـ) كان من بين شعراء يافع المجيدين وقد اشتهر بأشعاره الوجدانية, التي كانت ولا تزال تنتشر وتتردد على نطاق واسع بأصوات المطربين والمنشدين الشعبيين, وقد أفردنا القسم الأول لما بقي من أشعاره وزوامله. كما أن عمه لأبيه شيخ بن صالح علي كان شاعراً معروفاً, ولكن شعره, للأسف الشديد, لم يدوّن, ومنه قوله في حفل زفاف بمكتب السعدي يحث الناس على التآلف والوحدة لمواجهة الأخطار التي تتهددهم:
عادنا با شُوف وا مُدّ النظر
من كلد وصَّال والكلمه ثقيل
يا بني سَعْدَهْ ويا خُمْوَسْ يهر
لا اجتمعنا نِكْسِر القرن الجليل
وكان والد شيخ, صالح بن علي شاعراً, وقد خدم في جيش الدولة القعيطية في حضرموت بعد أن تزوج ورزق عدد من الأولاد (الرِّبُوش أو العويلة) فصعب عليه الابتعاد عنهم, فعبر عن ذلك شعراً نذكر منه هذين البيتين:
يقول أبو شيخ أن العَسْكَرَهْ
تُصْلَح لكم يا قليلين الرِّبُوش
من قد حِنِبْ بالعُويله والمَرَهْ
لا عاد يسمق بصَرَّات القرُوش
ويروى أنه في أحد الأعوام التي ساد فيها الجدب والقحط ذهب إلى إحدى المناطق ليستدين بعض الحبوب من أناس يعرفهم, ولكنهم اعتذروا له وعاد خائباً, فقال عند مغادرته مخاطباً السحاب الممطرة (شِحُوب العَفِيِّة):
يقول أبو شيخ دُنِّي يا شِحُوب العفيه
وَفِّي الدُّخن ذي مابع له إن كان شهرين
عادها هادفه وان الأوادم لِبيِّه
والمُقرش رُفِعْ ياذي رفضتوا على الدَّين
وللشاعر محمد ناصر بن مجمل شقيقان يقولان الشعر هما: علوي وخضر. ويمتلك ولداه عبدالله وفضل موهبة الشعر ولهما بعض المساجلات التي أوردناها مع والدهما.
في المعلامة
درس الشاعر في الكتّاب (المعلامة) في قريته على يد والده الحاج ناصر بن مجمَّل, الذي كان من أعيان المنطقة ومدرساً للقرآن الكريم وكان حكيماَ وشاعراً معروفاً في معظم مناطق يافع, ويأتي في صدارة فحول الشعر الشعبي في يافع في عصره.
في المعلامة ظهرت علامات نبوغ شاعرنا وتفوقه على أترابه وأنداده, فسُرَّ والده لذلك وأخذ يشجعه على الكتابة وحفظ القرآن الكريم, واستطاع خلال وقت قياسي أن يحفظ الكثير من السور وأن يفك رموز الكتابة. وكان منذ طفولته قريباً من والده, يستمع إليه وهو يعلم الأطفال القرآن الكريم, ويحضر مجالسه مع الكبار ويستمع إلى ما يدور في هذه المجالس من نقاشات وأحاديث أو الاستمتاع بأشعار والده وأشعار غيره أو معالجة قضايا الناس, فألم بقضايا قومه وبعاداتهم وأعرافهم التي تنظم شئون حياتهم وأصبح بمرور الأيام ضليعاً بها ومرجعية فيها.
توليه المسؤولية مبكراً
توفي والده سنة 1346هـ بعد عودته من الديار المقدسة وتأديته لمراسيم الحج, وكان محمد حينها لا يزال فتى غضاً لم يبلغ سن الرشد بعد, وبما أنه أكبر أخوانه الصغار فقد كان لزاماً عليه أن يقوم بدور أكبر من سنه, فهو من يتحمل مسئولية الأسرة وإعالتها والقيام بكل واجبات رب الأسرة بعد وفاة والده. وكان عليه الاعتناء بتربية أخوانه وتدريسهم, وقد اجتاز هذا الاختبار الصعب الذي واجهه بنجاح وأثبت أنه جدير بتحمل مسئوليته على أحسن وجه, كما واصل ما كان يقوم به والده من تدريس القرآن الكريم لأبناء منطقته ولفترة من الزمن.
كانت الظروف التي تعيشها منطقة يافع, في فترة شبابه, صعبة للغاية, كما هو حال معظم مناطق اليمن, فلا مدارس ولا طرقات ولا خدمات صحية, وكانت الأمراض المعدية تفتك بحياة عشرات الناس, وقد تعرضت قرية الشاعر ومحيطها المجاور, في شبابه, لوباء معدي يسمى (حشر), مات بسببه العديد من أفراد قبيلته. وفي تلك الظروف ونظراً لما يتمتع به من الذكاء الفطري والصواب في الرأي والصدق في القول ولما يحظى به من تقدير وثقة الناس فقد تحمل منذ سنوات شابه مسئولية القبيلة (كشيخ لآل عبدالباقي) فأدار شئون القبيلة بالتشاور والتعاون مع أشخاص مقتدرين من ذوي الخبرة والتجربة ممن يكبرونه سناً, ولكثرة مشاغله تخلى عن مهمة تدريس القرآن الكريم للحاج ناصر محُمَّد راجح وتفرغ لقيادة القبيلة وإدارة شئونها بمساعدة ومؤازرة من الأعيان (العُرَّاف) الذين يكبرونه سناً وتجربة أمثال زيد بن حسن محسن من القصَّيْمِهْ ومحسن صالح خادم من المَحَارس وناجي حسين عاطف من آل بن مهدي. ومن الذين عاصروه وكان يستشيرهم ويتبادل معهم الرأي نذكر: ناصر محُمد بن ثابت محسن وناصر محُمد راجح وسعيد محمد جبران (من آل القصمة), وصالح عبدالقوي بن صلاح وفضل سالم وصالح جبران وزيد بن سعيد (من المحارس), وحسين محسن منصر ومحُمد ناصر عاطف وسعيد شيخ بن عوض (من آل بن مهدي).
وكان الشاعر الشيخ محمد ناصر بن مجمل شخصية اجتماعية مؤثرة غلبت على طباعة الطيبة والسماحة, وعاش حياة بسيطة متواضعة وهادئة, ولم يعرف التكلف في حياته ولا في شعره, وظل طوال حياته مصلحاً اجتماعياً أسهم بحكمته في حل الكثير من المشاكل الصعبة والمعقدة وأطفأ ثارات وفتن استمرت عقوداً من الزمن وذهب ضحيتها الكثير من القتلى والجرحى. ومن بين تلك الفتن التي أسهم في إخماد نيرانها نذكر, على سبيل المثال, فتنة آل سعيد وآل يوسف, فتنة آل علي وآل الحاج, فتنة الدعاسين والجعاون, وفتنة المناصر والجعاون. وقد أشار في قصيدة له إلى جهوده تلك وجهود ومعاناة من سبقه في سبيل حل المشاكل ووضع حد لتلك الفتن والحروب القبلية:
كم تعبنا وكم عانى الذي قبلنا
والسبب كان فعل الخير ما له مجال
كان من قبل لِسْتقلال تركيزنا
كيف ننهي الفتن ذي سبَّبَهْ لنفصال
تمّت إصلاح قدَّمنا بها جهدنا
بين عدِّة قبائل تم وقف القتال
هذا بالنسبة للقضايا الكبيرة التي حقنت الدماء. أما القضايا والمشاكل اليومية والخلافات والمنازعات التي لا ترتقي إلى القتل فهي كثيرة ولا حصر لها, وقد ظل الشاعر حتى آخر حياته مرجعية اجتماعية يلجأ إليه المتخاصمون في كل صغيرة وكبيرة، وكان يُطلب منه أن يختار بيت من كلد فوقع اختياره على صديقه الشيخ محمد عبدالله العلوي وبعض مشايخ آخرين الذين كانوا يقفون إلى جانبه ويرافقونه في حل مثل هذه المشاكل.
وفي جميع القضايا التي عالجها عُرف بنزاهته وحبه للخير ومصداقيته الواضحة في إصلاح ذات البين, ووضوحه مع المتخاصمين وإقناعهم بالحلول المرضية العادلة دون حياد إلى أي طرف مهما كانت صلة قرابته أو علاقته به. ومن المعروف أن من حق المتخاصمين في العهد القبلي إبداء الرفض أو الاعتراض على الحل وطلب الاستئناف فيه على قاعدة العرف القبلي المعروف (القلادة – النقادة). ولكن الشيخ كان يوفق في إقناع الأطراف بحلوله الناجعة التي لم يعترض عليها قط, وهو ما يعكس الثقة بمصداقيته ونزاهته وتقواه, فضلاً عن حكمته وذكائه الفذ وشجاعته في الوقوف مع صاحب الحق
وقف الشاعر مع انتفاضة السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي عام 1958م, وعاد الشاعر حينها من أبين إلى مسقط رأسه (القود) في يافع – كلد, وقد كان ضميناً على عدد من الجنود ممن غادروا مع السلطان محمد بن عيدروس, فأفقده ذلك الموقف الذي اتخذه بقناعته الميزات التي كان يحصل عليها مثل بقية مشايخ القبائل وقبائلهم. ولاحقاً لم يحصل على أراضٍ وزعت باسمه كغيره من المشايخ وذلك بحكم ظروف عدة, أهمها الوضع القضائي المعطل جزئياً في البلاد. وفي عام 1961م عندما قرر السلطان محمد المغادرة إلى البيضاء بعد أن وجد أنه غير قادر على مقاومة وردع سلاح الجو البريطاني وأن بقاءه على هذه الحالة يزيد من تدمير المساكن وحرق المزارع وترويع المواطنين في يافع ويزيد من مآسي أبنائها دون أن يكون قادراً على الرد, وقد غادر الشاعر بصحبته مع آخرين من يافع إلى البيضاء ثم إلى صنعاء، وعمل الشاعر الشيخ محمد ناصر بن مجمل خلال تواجده في شمال الوطن على الحصول على أسلحة لقبيلته ووفق بالحصول على خمسين قطعة سلاح مع ذخيرتها ووزعها بين أفراد القبيلة.
عاد الشاعر من شمال الوطن إلى مسقط رأسه قرية (القود) وواصل عمله كمصلح اجتماعي بين أفراد قبائل يافع وبالذات في كلد. وكان حكيماً بحلوله وبشعره الفطري الذي كان يعكس مواقفه من القضايا المختلفة, وله مواقف عديدة لنصرة المظلوم وأخذ حقه من خصمه القوي حينما يخفق أن يأخذ حقه بنفسه. وبعد الاستقلال الوطني أعتقل الشاعر الشيخ محمد ناصر بن مجمل في سجن (القارة), لا لتهمة محددة وإنما لاسمه الذائع في المنطقة, وصودرت أراضيه وسلاحه الشخصي. وبعد خروجه من السجن مارس حياته الاعتيادية بهدوء ولم يكن يبخل بمشورته ونصحه لكل من يطلب منه ذلك, كما لم يتوانى في حل القضايا الاجتماعية بين الناس الذي كانوا يلجأون إليه لخبرته ونزاهته المشهودة وظل على هذا الحال حتى أواخر أيامه يبت في الكثير من القضايا والمنازعات بين الناس. وفي عام 1985م زار الشاعر الديار المقدسة في مكة والمدينة وأدى مراسيم الحج.
نظرة في شعره
-------
من خلال تجربة الشاعر ونظرته الخاصة لأحداث الحياة وصياغته لها فأن الملمح الأبرز في شعره هو تعاطيه مع قضايا قومه ومجتمعه برؤية الشاعر وعقلية الشيخ الحكيم الذي يتعامل مع محيطه بلغة هادئة مهذبة بعيداً عن نبرات الصراخ أو الغضب أو التعالي, لذلك نجده في شعره إنساناً يغادر قضاياه الخاصة ومعاناته الذاتية ليدافع عن قضايا قومه ومجتمعه وأمته. وهذا ما نلمسه من مضامين شعره الزاخر بالحكمة وبالمعاني الواضحة التي يقبل عليها المتلقون بتلهف وإعجاب كبيرين.
إن الشعر الجيد, سواء كان فصيحاً أو عامياً, هو الذي يُكتب له البقاء, أما الغث فهو ابن يومه لأنه يولد ميتاً, ولا يجد من يهتم به أو يلتفت إليه. وأشعار بن ناصر مجمل تنتمي إلى ذلك الشعر الجيد الذي يترك أثره في النفس ولا يفقد ألقه وتوهجه رغم مرور الزمن وتقادمه. فحين نقرأ أشعاره أو نستمع إليها اليوم, رغم انقضاء المناسبة التي قيلت فيها,نجد أنها تهزنا وتحرك وجداننا وكأننا نعيش الأحداث, وهنا تكمن قوة هذه الأشعار وجاذبيتها. ومعروف أن شاعرنا وأمثاله من الشعراء الشعبيين هم أصحاب مواقف, ليس فقط إزاء الأحداث الوطنية العامة, بل والقومية وحتى الإنسانية. وكثيرة هي الأحداث والمواقف التي أرَّخ لها الشعراء الشعبيون ونظموا فيها أروع الأشعار بدافع من ارتباطهم الحميم بمحيطهم الاجتماعي وبالقضايا الوطنية والقومية العامة, فجاء وهج قصائدهم ولمعانها الشعري بعيداً عن التكلف أو الالتفات إلى الصنعة الفنية, لأنهم حين يقرضون الشعر, لا يفكرون بذلك, بل ينساقون في نظم القصيد بسليقتهم وفطرتهم الشعرية, ومع ذلك نجد أن أشعارهم تحفل بالصور الفنية والبيانية والرموز الموحية وموسيقى الألفاظ التي تنساب إلى القلوب بتلقائية وسلاسة وبرقة الماء وعذوبته.
ففي رائعته الأكثر شهرة وانتشاراً, التي يقول فيها:" يقول بن ناصر مجمل, يا راسي الليله تزمل" يصور الشاعر الحرب الكونية الثانية التي يصفها بحرب السيف, والتي قتل فيها من البشر ما لا يحصى عددهم, وتعطلت طُرق التجارة العالمية, بما نتج عنها من خسائر تكبدها عامة الناس(الرَّعية), ومما جاء فيها:
يقول بن ناصر مُجَمَّل, يا راسي الليله تزَمَّلْ
طاب السَّمَرْ والهَاجس اقْبَلْ, وهَزْ فَوْج السَّابريه
وهاجسي عاده توَصَّلْ, ودِّيْ خَبَرْ جَاوه ولنْدَلْ
والرُّوم لمَّا أرْض لَهْدَلْ, ولا البحُور الدَّاخليه
وقال حَرْب السَّيف مُسْتَل, ما تحتصي ذي فيه تُقتل
و البحر والمرسى تَعَطَّلْ, واتْخَسَّرَهْ فيه الرَّعِيِّهْ
ومن قريته النائية, المعلقة كالثريا في بطن جبل "موفجة" في يافع – كلد, ظل الشاعر متجاوباً مع الأحداث التاريخية التي مرت بها المنطقة العربية, يعايشها ويتفاعل معها ويتابعها أولاً بأول. ومثل كثيرين غيره هزته النكبة الكبرى المتمثلة في اغتصاب فلسطين وإعلان الدولة اليهودية, صنيعة القوى الاستعمارية, ويتحسر على تشرذم وتمزق العرب والمسلمين الذين أصبحوا خدماً لتلك القوى الاستعمارية, ولم يجد سوى الدعاء إلى الله أن يأتي بنصره من الشام, بقيام دولة فلسطين:
قال انه المَهْرَا تبدَّل, والبحر واشغاله مُعطَّل
والأرض جُملتها مُسَرْكَلْ, والشور شلَّوه الملاعين
ما شي حَظَا خلَّوا للاسلام, سَوْهُمْ لهم بالأرض خُدَّام
لكن عسى نصره من الشام, تظهر مع دولة فلسطين
وظل شاعرنا،في شعره وفي مواقفه, مناضلاً وطنياً, وقف ضد الوجود الاستعماري الانجليزي وعملائه,. ومثلما وقف ضد الأوضاع القبلية الهوجاء وضد الفتن والحروب القبلية, فقد كان موقفه واضحاً ضد أي ارتباطات بالاستعمار البريطاني وعملائه الذين لا يعترف بشرعيتهم ويحذرهم من الطمع(السَّمق) ومثل هؤلاء لن يجدون صاحباً أو رفيقاً كما يقول في هذه الأبيات:
ولا نعترف بالناس ذي شرعهم قصير
ولا الناس ذي يِهْرُون من غير مُقدره
وقل لا وصلهم كَرّ يدعون با نغير
بيافع فلا نشتي نصارى وعسكره
وتحجر لذي عاده من السِّيْب يستعير
لأَنْ الطَّمع كمَّن شرف جِيْد كسَّره
وما دام رِحْنَا نَكْسَبْ القَطْع بالجَفير
فمن حَبّ لستعمار ما له مسايره
ولما تصل لا الحصن ذي دولته حَقير
لَمَهْ يقبل استعمار والوقت يزجره
وحين فشلت القوات الاستعمارية في إضعاف عزيمة السلطان الثائر محمد بن عيدروس وأنصاره, لجأت إلى سلاح الطيران البريطاني الذي شن غارات وحشية على عشرات القرى في يافع الجبلية وكان من نتائجها تدمير منازل وبيوت كثيرة, وترافق مع ذلك حرب المنشورات والإنذارات التي كانت توزعها الطائرات الحربية لإرهاب المواطنين وإضعاف روحهم المعنوية وتأليبهم ضد السلطان الثائر وأنصاره, وهو ما عجزت عنه. وعندما توانى الإمام عن تقديم الدعم المادي لمواجهة بريطانيا قال الشاعر الذي كان بصحبة السلطان محمد بن عيدروس الزامل التالي يخاطب فيه الإمام في قصره بتعز:
سلام للدوله وجُملة من حضر
إن كان شي با ترفعوا عنَّا الخطر
يملأ جبل يافع ويبلغ لا تعز
والاَّ اطلقونا حيث ما هزَّه تهز
كان الشاعر من دُعاة الوحدة اليمنية وناضل من أجل تحقيقها, وقد حذر في سنوات التشطير من مخططات الدول العظمى التي جعلت من اليمن ساحة للصراع فيما بينها, ورأى أن الوحدة هي الحل لإنقاذ اليمن من حالة التمزق والحروب الأخوية التي تغذيها القوى الإقليمية والدولية, وعندما تحققت أمنيته الكبرى وشهد مع كل أبناء الشعب اليمني فرحة إعلان الوحدة اليمنية في 22مايو1990م غنى لها طرباً وبارك فجرها المضيء الذي أزاح أستار الظلام وشبه الوحدة بالشمس التي غمرتنا بأنوارها الساطعة, متمنياً أن تظل هذه الأنوار سرمدية, بل ورأى في وحدة اليمن خطوة لتحقيق الأمل الأكبر المتمثل بوحدة الوطن العربي الكبير .
وحينما بدأت الخلافات تتفاقم بين صُنَّاع الوحدة, خلال المرحلة الانتقالية, رأى في ذلك نذر خطر على الوحدة, ودعاهم إلى التفاهم والتشاور لتمتين بنيان الوحدة, وحذر من أن يتحول الود إلى جفاء:
يا المؤتمر والحزب ضموا شوركم
لمَّا نسوِّس ساس من فوق الصفاء
لأني بشُوف الوقت يتلاعب بكم
بعد المحبه با تردونه جفاء
وفي صيف 1994م غابت أو غُيِّبت حكمة اليمانيين ولم تفلح في تجنب الخطر الذي حذر منه الشاعر, وتحول الود بين صانعي الوحدة إلى جفاء, ثم كانت الحرب وما نتج عنها من إعلان الانفصال, وفي غمرة تلك الأحداث وقف الشاعر ضد الانفصال ومع الوحدة, مطالباً بتضميد الجراح وإصلاح مسارات الوحدة وتحقيق العدالة والمساواة. وظل الشاعر على مواقفه تلك حتى وفاته يوم الأحد 10/10/2003م الموافق 16 شعبان 1424هـ. وبموته خسر الشعر الشعبي شاعراً حكيماً وفارساً من فرسانه, شاعراً لا تفاخر به قبيلته, رغم أنه شيخها, بل يفاخر به الوطن لأنه استمد رؤاه من الحياة ووقف مع قضية شعبه ووطنه, ونادى بكل ما في قلبه من شجن وحنين لمعاني وقيم الخير والجمال والعدل, وحمل شعره معان عميقة قدمها بلغة بسيطة هي لغة الشعب, لا تكلف فيها ولا تصنع, لكنها لغة راقية تحفر لها مكاناً في وجدان وأفئدة الجماهير الواسعة التي تمتلك ذائقة رفيعة وتحترم وتجل الشعراء وتحفزهم على الخلق والإبداع.
*********
من مقدمة ديوانه (يقول بن ناصر مجمل)