كان الامير محمد عيدرس عاشقاً للفن والحياة , ومغرماً ب " يحي عمر" واشعاره والحانه وكما كانت للأمير هوايات الاخرى : كركوب الخيل والرماية بالعيلمان والبندقيات التي كانت في عهده, ولعّ أيضاً بمتابعة سير عظماء التاريخ العربي والاسلامي وأعمالهم-
وفي يافع على وجه الخصوص .
لعل الحميد بن منصور ويحي عمر اليافعي , كانا هما أهم من كان يفخر بهما بن عيدروس
يقول الاستاذ عوض العرشاني
في كتابه" معانقة المجد .. يافع الشموخ .. وثورة بن عيدروس "
" كما كان يحي عمر فخوراً بعشقه لفنه, ومتيماً بتراث الأجداد وجمال الطبيعة في يافع. بن عيدروس " لايخفى هذا العشق عن الخاصة من المقربين إليه , بل ويهيم بها هياما غير محدود , ولا معلوم لأحد ..ومات سره في قلبه .
ولا انسى ان " بن عيدروس " دعاني الى مجلسه في ليلة من ليالي وحدته وكان يبد مسروراً من الظاهر , ولكني كنت أتايع حركات وجهه ويديه وهو يمسك على العود ,
ففهمت لماذا دعاني؟
قلت: سمو الامير .. خيرا ان شاء الله
عندما لمست مداعبته للعود دون أن يتكلم معي,
قال: " القنبوس هو من سيتكلم بالنيابة عني"
ابتسمنا , وظللت أستمع:
فدندن الامير باحد ألحان يحي عمر, وكانت بعض الابيات تلمس أوتار قلبه, وتسحب شجني الى بعيد , وكانت الابيات ليحي عمر تحكي جزءا من هذه الدعوة...
يقول يحي عمر:
يحي عمر قال قف يا زين أسالك بمن كحل أعيانك
وشكلك في الحلا شكلين وشكل الونك ومرجانك
من علمك يكحيل العين من ذا الذي خضب أبنانك
الى ان قال:
يا مركب الهند بو دقلين يا ليتني كنت ربانك
اسعى بك البحر والبحرين وأحمل المال في خانك
لي قسم في قسم لك قسمين وقسم زايد على إخوانك
المصلحة بيننا نصفين لا ربّح الله من خانك
ياليت لي في حياتك دين أروح أجي على شانك
وأختم قصيدي بذكر الزين بالمصطفى نسل عدنانك
وبالمناسبة لا يذكر يحي عمر الا وتذكر صفاته وأهمها هيامه بيافع وطبيعتها وعشقه للفن, والغناء اليافعي على وجه الخصوص الذي كان هو حياته, كما كان هواية " بن عيدروس".
ومن أشهر قصائد " يحي عمر اليافعي" الملحنة
( لا حد يلوم المولّع)
لا حد يلوم المولّع لا ذكر من يودّه
يا لله أدعو ما بين الحبّين تجمع كل من كان وحده
كيف يهنأ منامه والدّموع أربع أربع ساكبه فوق خدّه
ها شني ها شني ذاك الجعيد المنسّع شل عقلي وردّه
***
والنبي والنبي لا كسّر الباب وأطلع عند منسوع جعده
وأنت يا اليافعي مالك على الباب تقرع باب بيت الوليدة
لا معي مال بالغرفة ولا قرش بادفه غير بندق وعدّه
واضمنوا له بحدّه والحديدة وموزع واللحيّة وصعده
والمخا بندر الكبسي له الهند تدفع كل يوم الف عدّه
الف صلوا على طه الحبيب المشفّع والصحابة وجُنده
لم يتعلم بن عيدروس فن يحي عمر في مدرسة .. ولكن تابع شعر وغناء يحي عمر مسجلاً على أسطوانات , احضرها له والده السلطان عيدروس من عدن مع اله " القنبوس" ..
هكذا عشق الامير فن يحي عمر وألحانه منذ نعومة أظافرة... وتاه وتهيم بشعره والحانه. لدرجة كان يقضي ليالي طوال على سماع الحانه وتكرار الضرب على العود.
وكما كانت لحظات الفرح تلمسها في دندنته وعزفه على القنبوس.. كان هناك شعور بالشجن والوحدة يعبر عنها ايضاً – شجن عميق ومؤثر في وجدانه ووجدان من يستمع اليه.
وفي هذا الصدد يذكر الاستاذ العرشاني: في ليلة 16 يونيو 1958 وكانت هذه اخر ليلة اجتمعت بها مع الامير , قبل ان تدك الطائرة البريطانية في صبيحة اليوم التال قصر
" لقواد" وهو قصر الامير خارج بوابة " سدة القارة" من الناحية الشمالية أستدعاني–انا المؤلف- فلبيت النداء , ووجدته صامتاً.
قلت : خيرا سمو الامير ؟
قال: تفضل.. لنتسامر معاً
ابتسمت وجلست في مواجهته
قال: هل تعرف لماذا دعوتك؟
قلت: الله اعلم بمزاج سمو الامير .. وصمت.
قال: س اسمعك لحناً جديداً .. من روائع يحي عمر ومن تطويري الشخصي .
هززت رأسي وقلت له.. " هات يا مولانا مكا عندك"
وأمسك " القنبوس_ وبدأ يدندن وانا صامتا, مترقباً حركاته وسكناته وانينه الداخلي, وقد أستمتعت كثيراً بما سمعت.
ولكنني حزنت كثيراً على ما رأيت من شجن واحساس الرجل بالوحدة وهو بين قومه وقبائله..
قلت له : لماذا هذا الشجن؟
تأوه الأمير وكنا معاً- هو وأنا وخادمه- فقط في مجلسه
" يا أستاذ عوض- هكذا كان يناديني- عشت هنا وحيداً, أسهر الليالي في شجن وحنين وألم وأنين".
قالها وكأنه يتوقع حدثاُ ما جسيماً سيحدث!
قلت له متعاطفاً: ولماذا يا سمو الامير تحس أنك وحيداً؟
قال: " الوحدة!.. الوحدة قاتلتي!!!
قلت : " كيف؟!
قال: " عشت في عزلة في هذا القصر .. رغم تواجد الناس حولي في الاسفل.. وهم كثر كما ترى_ لكننى لم أجد من يفهمني, ولم أفهم ما أرى!!
تأملت في وجهه الصبوح وكدت أدمع.. لقد أحمر وجهه وكاد يذرف الموع.. لكنني أحسست أنه يتماسك أمامي, فصرفت بصري بعيداً عنه, واستاذنت بالانصراف وذهبت!..
في اليوم التالي حدث ما كان " حدساً" .. وقصفت الطائرة البريطانية قصره,. الذي كنا به بالأمس بعد انذار لم يتجاوز خمس دقائق كان من في القصر خارجه وبلا خسائر بالبشر
نجونا من العدوان البريطاني
ومن ليلتها احسست بإحساس الامير بالوحدة, بالرغم من كثرة الرجال حوله.
دنيا!!
رحم الله السلطان محمد عيدروس
المصدر :
موسوعة جعار ثقافية واجتماعية وزراعية وتعليمية ورياضية