آخر تحديث :الأربعاء-22 يناير 2025-10:48م
وثائقيات


الأستاذ محمد علي ناصر الجبيري شخصية وطنية وقيادية وتربوية ومدرسة في النضال والتضحية

الأستاذ محمد علي ناصر الجبيري شخصية وطنية وقيادية وتربوية ومدرسة في النضال والتضحية
الإثنين - 02 ديسمبر 2024 - 09:34 م بتوقيت عدن
- أبين تايم/ وثائقيات

«شخصيات تربوية يتناولها منتدى القارة التربوي بيافع محافظة أبين»


بقلم /الدكتور عيدروس نصر ناصر


الأستاذ محمد علي ناصر من مواليد 1940م في منطقة العمري بيافع رصد محافظة أبين.

بعد العام 1969م عام استكمال بناء مدرسة رخمة الحديثة، وبعد أن ظل الكُتَّاب (المعلامة) هو المؤسسة التعليمية الوحيدة، كنت ومجموعة من الزملاء ممن هم في سني مترددين في إمكانية دخول المدرسة أو الاكتفاء بما تعلمناه في الماضي، حيث كنا ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة، وكنا نخشى من عدم قبولنا لهذا السبب، لكننا وعند ما ذهبنا للتسجيل وتم قبول أسمائنا حسمنا الأمر وقررنا الاتجاه جميعا لمواصلة التعليم في أول مدرسة حكومية فيها معلمون مؤهلون، وكتاب مدرسي موحد وتنوع في المادة التعليمية.

كان ذلك في شهر فبراير أو مارس تقريباً حيث أكملنا السنة الدراسية، في الثلاثة الأشهر الأولى، وجاء يونيو ونحن في العطلة الصيفية، ثم في سبتمبر بدانا السنة الدراسية الجديدة.

في هذين الفصلين كان التعليم بلا كتاب عدا كتاب المدرس، وأذكر هنا اسمين كريمين أتوجه إليهما بالتحية والإجلال هما الأستاذ سعيد حسين العطوي أول مدرس في مدرسة رخمة وبعده الأستاذ سعيد علي حسين الشنبكي، عليه رحمة الله.

وفي العام 1970 قدم الأستاذان القديران زيد حنش عبد الله أطال الله عمره، وهو اليوم قاضي المحكمة العليا، أظنه قد انتقل إلى التقاعد، وقد كان يدير المدرسة ويدرس في أربعة صفوف في نفس اللحظة، ثم الأستاذ محمد علي ناصر، الذي عاد للتو من دولة الكويت ضمن فوج كبير من ناشطي ومناضلي الجبهة القومية الذين تأطروا فيها من خلال حركة القوميين العرب في الكويت، وكان وجود هاتين الشخصيتين تحولاً نوعياً في حياة مدرسة رخمة- التي سميت في البداية مدرسة خالد بن الوليد الابتدائية - وانظم إليهما لاحقاً الأستاذ يحيى محمد هيثم بن حلبوب – رحمه الله - ثم معلمون آخرون في السنوات التالية.

سأتناول تجربتي مع الأستاذ القاضي زيد حنش في مناسبة أخرى، لكنني سأتوقف هنا عند تجربة الأستاذ محمد علي ناصر، أتمنى له طول العمر.

كان الأستاذ محمد قادماً من بيئة ثورية، بعيد الاستقلال الوطني، وأعتقد أن انخراطه وكثير من زملائه في سلك التدريس جاء بتكليف من الجبهة القومية التي كانوا أعضاء فيها منذ الستينات، خلال فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار، فما زلت أتذكر أنه كان يسافر مبكراً يوم السبت من كل أسبوع، سيراً على الأقدام من قرية الجعشاء - أعلى قمة في منطقة العمري وربما ثاني أعلى قمة في ما بين وادي يهر ووادي رخمة بعد جبل بن قماطه- ليقطع مسافة عدة كيلومترات منها نزولاً من أعلى القمة، ثم صعوداً إلى منطقة القاهر، فنزولاً مرة أخرى إلى وادي مذبلة حتى يصل إلى مدرسة رخمة قبل الساعة الثامنة صباحاً موعد بدء الطابور المدرسي، يعمل كل هذا وربما كان لم يكمل أشهر على زواجه.

كنا نصل نحن التلاميذ القادمين من قرى مثل القيئمة واللكمة وجبل محرم والمربض وبقية القرى البعيدة مع وصول الأستاذ محمد وأحياناً كان يصل قبلنا، مصطحباً أخاه زين الذي غدا اليوم مهندساً معمارياً معروفاً، وكانت حافظة اللحوح ملازمة له كل يوم سبت.

بعد انتقال الأستاذ زيد حنش عبد الله إلى مدينة جعار لأسباب ليس هذا مجال الحديث عنها، صار الأستاذ محمد علي مديراً للمدرسة وناشطاً سياسياً بارعاً ومرشداً جماهيرياً ناجحاً، ومثقفاً سياسياً متمكناً في منطقة رخمة من خلال نشاطه في المركز الثقافي واللجان الشعبية ولجان المبادرات الجماهيرية والخلايا التنظيمية للجبهة القومية التي كانت ما تزال في طور السرية، حتى العام 1972 بعد المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية.

كان الأستاذ محمد شعلة من النشاط والحيوية والتفاني ونكران الذات، فقد كان على مدار ساعات المدرسة، يتنقل بين عدد من الصفوف، وفي أوقات ما بعد الدراسة يوزع وقته بين عقد الاجتماعات، أو المشاركة في المبادرات الجماهيرية أو في الندوات الثقافية للمركز الثقافي، أو موجهاً ومشاهداً في مباريات كرة القدم التي كانت تقام أكثر من مرة في الأسبوع الواحد.

كانت المدرسة في فترة إدارته القصيرة قد شهدت تحولاً مهماً هو استمرار للبدايات الرائعة التي دشنها مع زميله الأستاذ القاضي لاحقاً (زيد حنش عبد الله)، فلأول مرة كان لدينا برنامج للحصص الدراسية المتنوعة يتوزع على ساعات اليوم وطوال أيام الأسبوع، كما توصل الكتاب المدرسي، وكان نسخة من المنهاج اللبناني، كتاب المطالعة حدائق القراءة، وأتذكر أن الدرس الواحد كان يحوي نصاً للقراءة، وفقرة للاستذكار وفقرات للإملاء ثم فقرات للقواعد النحوية، وأخيرا فقرة للخط، ومع توافد عدد من المدرسين الجدد تحسن مستوى أداء المدرسة وجاءت مواد الرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ والتربية الدينية بفروعها.

في شهر مارس 1971م استدعانا الأستاذ محمد أنا وستة من زملائي إلى مكتبه بعد نهاية الدوام الدراسي، وعرض علينا فكرة تكوين خلية طلابية تنظيمية للجبهة القومية، وكنا نعرف معلومات مشتتة عن التنظيم السياسي لكننا لم نكن نعرف قضايا وتفاصيل البنية التنظيمية بتراتبيتها وهيئاتها وواجبات الأعضاء فيها وحقوقهم، ومذ ذلك اليوم انخرطنا أنا وزملائي الستة كأعضاء في صفوف الجبهة القومية ولاحقاً الحزب الاشتراكي اليمني.

كان الأستاذ محمد يمتلك إلماماً كبيراً بالأحداث التاريخية العربية الهامة وفي الاجتماعات الثقافية الأسبوعية كان الأستاذ على مدار اشهر متواصلة هو الضيف الرئيسي، وما زلت أتذكر تلك المحاضرات التي كان يقدمها لنا عن الثورات التحرر العربية في مصر والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين، وليبيا ومواجهة الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني في هذه البلدان التي كانت ما تزال تجاربها تمثل الصورة المشرقة من التاريخ العربي المعاصر.

لم يبق الأستاذ محمد طويلاً في مدرسة رخمة، فقد توسعت العملية التعليمية في مركز رصد وفي المديرية الغربية (التي كانت تشمل 7 مديريات من مديريات اليوم هي رصد، سرار، سباح، لبعوس، يهر، المفلحي، والحد) وخلال حوالي سنتين بنيت أكثر من مائة مدرسة ابتدائية شكلت جسماً تعليمياً متضخماً فجأة، وكان لا بد من إدارة ماهرة وناجحة ومسؤولة وجاء اختيار الأستاذ محمد ليشغل وظيفة مساعد مشرف التعليم في المركز الثاني - مديريات رصد الثلاث حالياً- وهي سباح، ورصد، وسرار، بديلاً للشهيد التربوي الفاضل الأستاذ حسين محمد حسين اليزيدي على روحه السلام والمغفرة والرحمة والخلود في جنة الخلد الذي انتقل إلى مهمة حزبية على صعيد المديرية الغربية بعد أن ترك بصماته الطيبة في العملية التربوية والتعليمية في المركز الثاني .

الأستاذ محمد علي ناصر من الشخصيات التي إذا تركت أثرا لا يمكن أن يزول مهما مرت عليه السنوات، وبالنسبة لي وكثيرين من جيلي، ممن تتلمذوا على يديه ويدي مجايليه كنت أرى فيه، وفي الكثيرين من جيله صورا للمثل الأعلى الذي تتمنى كتلميذ ابتدائي أن تختط خطاهم وتتقمص أدوارهم وتقتدي بمسيرة حياتهم، بمضامينها الإنسانية والأخلاقية والعلمية والمهنية، ولذلك كان يوم انتقال الأستاذ من مدرسة رخمة للعمل مشرفا للتعليم في رصد يوما حزينا، لأننا أحببناه وانسجمنا معه وعملنا صحيح كمعلم وتلاميذ، لكن أيضا كأب وأبنائه نظرا لما لمسناه في أستاذنا العزيز من صدق وحب للعمل وتفاني فيه وربط التعليم بالتربية وغرس مفاهيم جديدة تقوم على الفضيلة والاحترام والتعاون وإسناد المحتاجين وحب الوطن وتبني المفاهيم الوطنية والإنسانية الكبرى كالحرية والعدالة والمواطنة والمساواة والحقوق والواجبات والنظام والانضباط،

بعد انتقالنا في منتصف العام 1973م لإكمال الامتحان الابتدائي الوزاري في مدينة لودر ثم الإعدادية والثانوية، في أبين كان الاستاذ محمد قد تنقل مهمات المسؤول التنظيمي لمركز رصد ومساعد مأمور المديرية وأظن أنه تولى المهمتين معا لفترة من الزمن بعد أن ترك بصماته الواضحة في تأسيس وتعميم منظومة تعليمية متكاملة في عموم مركز رصد وإنشاء وإدارة أكثر من خمسة وثلاثين مدرسة ابتدائية ومدرسة إعدادية، من سباح وطسة وحدق ومرصع، شرقا وأعلى حمومة وشعب العرمي شمالاً إلى ملاحة ووظن غربا إلى كلسام وحطاط وحمة جنوبا.

خلال كل المسؤوليات التي تولاها الأستاذ محمد وجيله من المناضلين الرواد، كانوا يعملون كما يعمل الفدائيون تماما.

فوسيلتهم للسفر بين مراكز المديرية وأحيائها المتباعدة ما بين سبيح وسباح وخيرة ويهر والمفلحي وسرار وحتى حطاط وحمة والعرقة والحد، كانت السير على الاقدام، فقد يكلف أحدهم لحضور اجتماع في إحدى تلك المناطق أو النزول لتفقد مشروع جماهيري او المشاركة في مبادرة شق طريق فكانوا يسافرون عشرات الكيلو مترات في طرق وعرة جبلية واودية وعقاب ويمضون اياما ما بين الذهاب والإياب ثم يعودون سيرا على الاقدام لينتظروا تكليفات جديدة.

كان القادة يشاركون في نقل التراب والحجارة والأخشاب والمياه، ويشقون الطريق ويردمون السقوف في المدارس والمنشآت مثلهم مثل أي مواطن، ثم يقفلون عائدين إلى مقرات أعمالهم.

ما زلت اتذكر يوم إن اخذنا الأستاذ للمشاركة في نقل الماء لسقف صف محو الأمية في وادي مقبل، وكان على راسنا، ينزع الماء من قاع البئر ويحمل البراميل إلى فوق السيارة (الوحيدة حينها، سيارة البلدية)، ويذهب لإيصال الماء مع السائق وآخرين، ثم يأذن لنا بالانصراف بعد إنجاز المهمة.

حينما عدت إلى رصد بعد إكمال دار المعلمين في العام 1977م كان الأستاذ قد انتدب للدراسة في معهد باذيب للعلوم الاجتماعية ونظرا لتفوقه فقد سافر لدراسة الأكاديمية في الاتحاد السوفييتي وبعد إكماله الدراسة تم اختياره لرئاسة اتحاد الفلاحين في محافظة أبين، وكنت حينها أتهيأ للسفر لدراسة الماجستير في جمهورية بلغاريا الاشتراكية.

لا شك أن الفترة التي لم نلتق فيها (ما بين1973- 1988) قد كانت مليئة بالدروس والتجارب والخبرات فالأستاذ محمد ليس بالشخصية الهامشية ولا بالموظف البيروقراطي الذي يؤدي دوامه اليومي ثم ينصرف بنهاية الدوام منتظرا استلام المرتب الشهري آخر كل شهر، بل كان صاحب فكرة وقضية وموقف ومبدأ وكل ذلك هو ما نذرعمره له منذ بدايات انخراطه في العمل السياسي في مطلع الستينات من القرن الماضي.

بعد عودتي من بلغاريا في العام 1988م التقينا مرة أخرى عاصمة محافظة أبين حيث انتخبنا في عضوية لجنة منظمة الحزب في المحافظة، وكلفت أنا بمهمة الدائرة العامة في سكرتارية منظمة الحزب، وكان الأستاذ ما يزال رئيساً لإتحاد الفلاحين، وكانت لقاءاتنا شبه أسبوعية، وأحيانا يومية في إطار المهمات المشتركة والاجتماعات الدورية، والزيارات واللقاءات الجماهيرية وظل الأستاذ ذلك الذي عرفته من العام 1971 م نقيا أصيلا شريفا مخلصا لقضايا الوطن والمواطنين، مؤثرا غيره على ذاته متواضعا، نزيها ومكافحا لا تلين له قناة، ولا يعرف اليأس طريقا إلى روحه الوطنية.

بقية القصة ربما يعرفها الجميع فقد انتقل في العام 1990م إلى صنعاء في إطار دمج اتحاد الفلاحين، المؤسسة المهنية مع اتحاد التعاونيات الزراعية الذي لم يقم بأي عمل ولم يقدم أية خدمة للفلاحين والمزارعين، غير استلام الإعانات الدولية وتوزيعها للنافذين والمحاسيب وذوي الجاه والمقام.

قابلت أستاذي عدة مرات بعد حرب 1994م بعد أن عدت من استكمال رسالة الدكتوراه وكان ممتعضاً ومتألماً من ما آلت إليه الأحداث وعملية الغدر التي تعرض لها شعب الجنوب وكان هذا الشعور العام لكل من ارتبط طوال عمره بتجربة الجنوب ودولته الوطنية، لكن الأستاذ محمد يتميز عنا جميعا بشدة حساسيته وإيمانه المطلق بالقضية التي تمسك بها منذ سنوات الصبا، وهي دولة الحق والعدل والمواطنة والنظام والقانون، وهو المشروع الذي أستقطته عصابات الغزو في العام 1994م.

وأخيرا

أشير إلى أن المناضل الوطني، والتربوي القدير الأستاذ الفاضل محمد علي ناصر بكل السجايا النبيلة والفضائل الأخلاقية والمزايا الإنسانية التي تحلى بها مع ما تميز به عن سواه، لم يكن حالة فردية منعزلة عن زمانها ومكانها، بل لقد كان واحدا من تلاميذ مدرسة وطنية كبيرة امتدت على طول وعرض الجنوب، وغطت مساحة زمنية ارتبطت بإنجازات لم يكن أحد يتوقعها، مهما بدت متواضعة، وقد كان أستاذ العزيز أطال الله في عمره، واحدا من قوافل القادة الوطنيين، الذين شكلوا معا فريقا متكاملا، أنجز ما أنجز وحقق لناس ما استطاع تحقيقه وقاد الجماهير لصناعة ما يخدم مصالحها ويرفع مستوى معيشتها، ومما كانت الهفوات التي تعرضت لها تجربة هذه المدرسة فإنها تظل نقطة في بحر التضحيات والخدمات التي قدمتها، وصفحة صغيرة في سجل الجرائم والمفاسد والفتن التي جاء بها من وأدوا هذه التجربة وحاولوا اجتثاثها من الأرض لكنهم فشلوا في انتزاعها من وجدانيات ومشاعر وذاكرة الأجيال .

أنتقل المناضل الكبير الأستاذ محمد علي ناصر إلى رحمة الله تعالى في تاريخ 2024/6/17م بسبب إصابته بفشل كلوي وسوائل في الرئتين.

نسأل الله تعالى أن يتقبله بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته.