اعداد د. سعيد بايونس
مقولة متداولة يستعملها الأبينيون, للدلالة على كثرة خيرات أبين الخضراء, ولكن هذا الخير ينماز عن خيرات المناطق الأخرى بأنه يأتي معًا (دفرة), أي زائد عن المطلوب, وبالمقابل فذهابه يكون بالطريقة نفسها, وهذا ما تؤكده المقولة الشعبية للوحش عن أبين. و"هنا في أبين لا يتجاوز الرجل الصالح هذه الحقيقة عندما قال: "أبين أرطب ولين"، فالسيول دفاقة حتى الساعة"().
اختلاف رواية القصة:
تروى قصة الوحش برويات مختلفة, نوردها كما جاءت ثم نرجح الأصح منها.
القصة الأولى:
تحكى أن تاجرًا سكن عدن – لم يحدد موطنه – و"كون ثروة فيها وعندما أراد العودة إلى بلاده وضع كل ثروته على الجمال وحط الرحال بوادي أبين (وادي بنا) القريب من زنجبار، وجاءته السيول القادمة، وفقد بضاعته وماله وجماله ورجاله، وقال هذا التاجر الغني الفقير (أبين أبين، أرطب وألين، أرض الحاس والحسحاس والكيد والنكد، والظلم الشديد، لا حيها سالي ولا ميتها شهيد، خيرها إلى الحجلين، وشرها إلى الأذنين، شابها معلول، وشاجعها مقتول"().
وفي هذه الحكاية تكون أبين وواديها بنا ممرًا لهذا التاجر الذي قد يكون من شبوة أو حضرموت حسب سياق الجغرافيا المذكورة في القصة.
القصة الثانية:
هذه القصة جاءت في سياق ذكريات أستاذنا الفاضل نبيل يونس (عراقي), حكاها له أحد زملائه حين استقر به المقام المحافظة الثالثة (أبيـــن) في عاصمتها (زنجبار)؛ إذ "يروى أن شخصًا حضرميا (من حضرموت) اسمه "الوحش" جاء للعمل في أبين، فاغتنى كثيرًا وفي مدة قصيرة، فحمل ما اكتسبه في أحمال عبر قافلة من الجمال، وعندما كان يجتاز أحد الوديان (وادي حسـّان) في طريق عودته إلى أهله في حضرموت، اجتاح الوادي فجأة السيل (الدفر)، فغمره وأغرق القافلة بحمولتها، فيما استطاع صاحبنا النجاة بنفسه، فتمعن في حالته وهو لا يملك شيئًا، فنظر خلفه باتجاه أبين حزينًا، وأنشد قائلًا:
أبيـــن أرطب وأليــــَـن
ارض الحاس والحسحاس
والظلم الشديد
لا حيها سالي ولا ميـّتها شهيد
شابها مَعلول وشاجـِعها مقتول
اذا تزرع ذهب ما تقضي حاجة
شرها للأذنين وخيرها للحجلين()
وحددت الرواية جغرافيا هذا التاجر أنه من حضرموت بوصف الحضارم أبرع البشر في التجارة, كما أن الرواية غيرت اسم الوادي؛ فجعلته وادي حسان بدلًا عن وادي بنا.
القصة الثالثة:
هذه القصة وردت في كتاب القاضي عيدروس عطروش وهي القصة الأرجح؛ المتداولة بين أبناء أبين (زنجبار), ومتفقين في رواية موطن هذا التاجر, وهو أن "مسقط رأسه الوهط مهاجرًا إلى "الطرية" إحدى حواضر أبين الأخضر ومركزها العلمي"().
وقد نقلت عنه مقولات تصف أبين في ظل إزدهار تجارته, ومنها: "أبين أغنتنا وأغنت أهلها"().
ورواية الوحش المتداولة في الدلتا, وهناك إجماع في روايتها, ويتداولونها بنفحة أسطورية, حينما يعتري أبين مصيبة. فالوحش بعد السنوات الطويلة التي قضاها في أبين قد صار تجارًا, وهو الذي جاء وفي خانة حزامة (الكمر), مبلغ ريال فرنصاوي (نمساوي), نعم كوّن مالًا كثيرًا فقرر العودة إلى الوهط في لحج المحروسة بعد أن تقدم به العمر. فاحتمل كل تجارته على ظهور الجمال التي شكلت قافلة طويلة, وقفل عائدًا إلى بلده الوهط.
لم يكن الجو ينذر بالمطر أو السيل, لهذا ما أن وصلت القافلة إلى وادي بنا, حتى أشعرهم بالمبيت لاستغلال نسيم الليل وليونة تراب الوادي (السيلة). وفي أثناء نومهم العميق تغير الجو فجأة وتراكمت السحب على الجبل (زقّرت, وركبّت), وسال السيل (دفّر), في الوادي, فوصل السيل إلى النائمين, فلم يجدوا إلا النجاة بأنفسهم.
جر السيل كل الجمال بما عليها, ونجا الوحش بذهابه إلى الضفة الغربية, فمكث برهة مدهوشًا مصدومًا, ثم فتح خانة كمره فلم يجد إلا ريالًا نمساويًّا كالذي جاء به إلى أبين, فأدرك حينها أن أبين أخذت حقها, وعاد إلى وهطه كما خرج منها. لم يترك أبين إلا بعد أن ألقى كلمات مسجوعة تمثل صفات أبين كما يراها في تلك اللحظة الصادمة:
أبين أرطب وألين
جزالم مظالم
(شل خيرها واسكن غيرها)
بلاد الحاس والحسحاس
والظلم الشديد
لا حيها سالي ولا مقتولها شهید
خيرها للحجلين وشرها للأذنين
شابها معلول وشاجعها مقتول
لو زرعت ذهب ما تُفرج عن مكروب
أرضها للصداع وبقرها للضباع().
هذه المقولة كاملة كما نقلها القاضي عيدروس عطروش في كتابه عدا (شل خيرها واسكن غيرها) التي وضعتها بين قوسين, فهي من محفوظاتي التي سمعتها من كبار السن. و"قد ظلت تلك الأبيات الشعرية محفورة في وجدان كثير من أبناء المحافظة، خاصة عندما تصيب أحدهم مصيبة أو كارثة تقع في أبين"().
صدى المقولة في الأدب الأبيني:
لهذه المقولة التاريخية صدى على الحياة الاجتماعية والأدبية, وبسبب هيمنتها تحولت إلى حكم اجتماعي, وصفة ثابتة غدت سلوك نفسي يتحكم في الأبيني لا شعوريًّا, لذا نجد الأدب يتناص مع هذه المقولة, ويستدعيها في مواقفه الشعرية سلبًا وإيجابًا. بقول الشاعر محسن باعديل متوجسًا حقيقة تمكن هذه المقولة من نفوس الأبينيين:
لغة الموتى أرى صبنا بها وأرى "الوحش" يثير الألسنا().
كما استدعاها مرة أخرى, ولكنه استدعاء في سياق الانكسار لهذا جاء متماهيًا مع المقولة تمامًا, يقول الشاعر محسن باعديل في نص له بعنوان (الشفق المتفرد على منائر الكثيب):
أن يتم النهب
في زمن
يبارك
كل لص يجتبيه
والأدعياء
كثر
وحشد
من نفاق
"هذي بلاد الحاس
والحسحاس
والظلم الشديد"().
وفي ظل هذا الاستسلام للمقولة ينتفض الشاعر د. عيدروس نصر نافيًا هذه المقولة عن أبين الخير محاورًا ومجادلًا:
من قال أبين بلاد الحاس والحسحاس قل له يراجع حسابه دي معه بالبوك
قل له يفتش على التدوين في القرطاس من شان يعرف من المالك وما المملوك
من شان يعرف أصول القيس والمقياس والعهد والوعد ذي هو بالأمل مشبوك
يسأل على دي رسم عهد الهدف والكاس والعيش والملح تي مثل الذهب مصكوك
أبين بلاد الوفا والود والاحساس لو جيتها للمعزة لاهلها حبوك
وان جيتهم ضيف فوق العين هي والراس با يذكرونك وطول الدهر ما ينسوك
وان جيتهم بالخساسة مثل بانواس ما يقبلونك وكاس الماء ما يسقوك
ما عندهم وقت للوسواس والخناس لا جيت للشر للحيتان با يرموك
أبين بلاد النفائس والذهب والماس يا بخت من حلها با قول له مبروك
أبين بلادي وهي لي تاج فوق الراس مهما تباعدت روحي عندها مملوك
وقد أثار النزوح عواطف الإعلامي فضل مبارك, وتذكر متسائلًا عن جنة أبين التي غادرها مكرهًا, وقد اجتزأ من المقولة جانبها المشرق (أبين أرطب وألين):
"لك الله يا أبين كنت أرطب وألين, كنت مهجع التائهين, ودفء المشردين وارتواء الضآمئين, وأمان الخائفين, وكيف هو حالك وحال أبنائك اليوم؟, ماذا عن أهازيج فلاحيك في بساتين ومزارع باتيس والقرنعة والمسيمير والديو؟, هل لا زالت تحفظ أغاني العطروش: (وقصة الأمس أنت .. أنت يا معذبتي )؟ وكيف هي إمكانية إقامة سمرة (دحيف) في شقرة, أو (رزحة) في الطميسي ؟, وهل لا زال عوض دحان والقديمي وديرم يشدون لمحبيهم ما يطرب قلوبهم؟"().
(1) محمد محسن عطروش آخر عمالقة الغناء, د. هشام السقاف, صحيفة الأيام, .21 يناير 2020م
(2) لماذا سميت أبين بأرض الحاس والحسحاس؟, عدن الغد الخضر عبدالله, ٢ يناير ۲۰۲۰م.
(3) عراقي يكتب ذكريات 7 سنوات, نبيل يونس عدن تايم, 22 أكتوبر .2021م
(4) بتك, تأليف القاضي عيدروس 167روش, 1, 2015م, ص
(5) بتك, تأليف القاضي عيدروس عطروش, ص 167.
(6) بتك, تأليف القاضي عيدروس عطروش, ص 169.
(7) يا قبائل أبين اتحدوا, أبو عبدالله, أخبار اليوم (موقع), 26 يوليو 2011م.
(8) تنهيدة البحر, محسن باعديل, مركز .22عبادي, 1, 2003م, ص
(9) تنهيدة البحر, محسن باعديل, ص46. تنهيدة
معاناة أبين ومرابحات الثعالب, (10 فضل مبارك, شبكة عدن بوست 16 أغسطس، 2020م