ترجمة نصية من مذكرات المفوض السامي البريطاني السير كنيدي تريفاسكس حول الخلاف مع السلطان محمد بن عيدروس
تاريح النشر 1968
صفحة (116 – 125 )
Shades of amber: a South Arabian episode – 1968
by Gerald Kennedy Nicholas Trevaskis (Author)
(pp. 116-125)
........................................
( يستطيع المرء أن يحكم عندما يسمع الأولاد الصغار في عدن ولحج وأبين يهتفون " يعيش محمد عيدروس " بأنه وبمعيار الشعب قد أصبح بطلاً قومياً )
أما في أبين فقد كان الأمر مختلفاً ، ففي وسط السهل الاغبر الواسع وكسفينة حربية على صفحة بحر مفتوح ، تبرز طبقة صخرية ناتئة وحيدة تعرف باسم خنفر ، تقع على حافة مدينة جعار من يافع السفلى ، وعليها يمكن مشاهدة المكاتب والمساكن الخاصة بالطاقم الأوروبي الذي كان يدير برنامج القطن . وكان هناك حوالي 24 منهم، وقد عمدوا مع بعض النجاح لأن يعيشوا منفصلين من أبناء المنطقة بناديهم وعاداتهم المستجلبة معهم ، لكن هذه المنطقة ليست مستعمرة إنجليزية وبالنسبة لمسلمين محافظين جداً مع عدم معايشة سابقة مع الأوروبيين فربما يصبحون متطفلين أفظاظاً وعدوانيين . أما المحرضين الوطنيين فلن يجدوا أفضل من هذا الهدف الاستعماري لهم لإقناع منتجي القطن بأن المجتمع الأجنبي الصغير المرفه يعيش على نفقة العرب ، وإن الاستعمار وبطريقة ما " يأكل " من قطن العرب ، وهذه مناورة وطنية واضحة سهلها تواجد شخصيات اللجنة التي تدير برنامج ابين .
وللطمأنة ودفع القلق الناشيء لدى الخزينة البريطانية التي وفرت التمويل الابتدائي للمشروع فقد أوكلت رئاسة مجلس الإدارة إلي بصفتي المعتمد البريطاني ، ومن بين أعضائه الآخرين كان هناك إثنان من الإنجليز ، هم مدير مجلس الإدارة والمشرف الزراعي، وبما أن مجلس الإدارة كان أغلب أعضائه من الإنجليز ، وبما أن سلطنتي الفضلي واليافعي كانت تتم السيطرة عليهما عن طريق هذا المجلس إلا أن فكرة العلاقة الاستشارية كانت غير مكتملة إلى حد التدمير غير المدرك . أن الأخطار السياسية تديم هذه السلطة المطلقة كأمر بديهي ، ففي عدة مناسبات اقترحت بأن نعيد تكوين اللجنة بأعضاء عرب ومستشارين إنجليز ، إلا أن مشرف الزراعة كان يعارضني بشدة ، ويحاجج بالعديد من الأدلة المقنعة بأن مجلس إدارة عربي سيتصرف بلا مسئولية ، وسيعرض للخطر كل النجاح الذي تم للبرنامج . لقد نجح في النقاش لكن لاحقاً علينا دفع الفاتورة .
الحدث الرئيسي الذي قام به هيكنبوثم بالتسوية: الدراسة مع سلطان يافع السفلى ، هو تعيين ابن الأخير محمد عيدروس كنائب أو رئيس للإدارة في قطاع يافع السفلى من أبين ، والذي التفت المعارضة المحلية حوله في موضوع لجنة ابين عامي 1954 و 1955 م ، ولاحقاً مع دعم الرابطة ( يقصد رابطة أبناء الجنوب ) في تحدي وطني للاستعمار .
محمد عيدروس كان شاباً صغيراً جداً وذا وقار وصاحب قامة منتصبة بلا غطرسة غير لائقة . عندما قدم لأول مرة من مناطق القبائل الجبلية ، كان لا يعرف شيئاً عن الحكومة المعرفة ، لكن وعلى عكس العديد من الآخرين قليلي المعرفة ، كان لديه شهية ونهم للتعلم ويطلب المزيد والمزيد الى حد السأم من الأسئلة كيف ؟ ولماذا؟ ولم يمض طويلاً قبل ان يتحول اهتمامه في البحث والتحقيق إلى الشأن الخاص بلجنة أبين .
اجتماعات مجلس الإدارة كانت نادراً ما تشغل أعضاءها لأكثر من نقاش صباحي عادي . الآن ومع محمد عيدروس امتدت ، والتفاصيل والشروحات المضايقة كانت تقريباً حول كل شي ابتداء من الاتفاق على شحن آلاف البالات من القطن إلى الأسباب وراء صرف بعض الجنيهات لشراء ثلاجة لمنزل موظف .
ولأنه أصبح على إطلاع أفضل فقد تخرج من الطالب إلى مستوى المعلم ، ينتقد ويعاقب بأسلوب محرج وبلا كابح . كانت انتقاداته غالباً غير ناضجة ومرتكزة على سوء فهم مثير للضحك ، وعلى كل ففي بعض الأحيان كانت الانتقادات وثيقة الصلة بالموضوع ويمكن ان تكون مفيدة لو أنها طرحت بشكل أفضل . وفي كل الحالات فإنها كانت تثير استياء زملائي البريطانيين .
وفي محاولة جعلهم ينظرون إلى أنهم يخدمون محمد عيدروس صاحب ابين وليس كما يعتقدون بأنهم سادتها ، هناك مخاطرة في أن يجعلهم ذلك يرتبون حقائبهم ويرحلوا . وإذا لم يوجد البديل ليحل محلهم فماذا سيحل بالبرنامج ؟ وعلى نفس المستوى إذا حاول أحد ان يقنع محمد عيدروس بأن البرنامج سينهار بدونهم وأن عليه إن يجتهد على ضبط لسانه ،فهناك مخاطرة من أن يعتقد بأنه يطلب منه بان يكون إمعة.
لقد فعلت ما قدرت عليه للقيام بعمل صانع السلام بينهم وتحركنا بشكل أعرج من أزمة إلى أزمة ومن تسوية هزيلة إلى أخرى ، لكنني كنت مدركاً بأنني قد فشلت .
لم يعد خافياً اشمئزاز الطاقم الأوروبي في اللجنة من ضعفي ، والعديد منهم هدد بالاستقالة وعدد منهم غادر . والأسوأ أن محمداً قد تصاعدت ثقته إلى حد أن أصبحت لاذعة وتقلقني من أن تنتصر.
سألني في أحد الأيام : " كم من الفوائد تجنيها الحكومة البريطانية من عدن والمحميات " ، طرح السؤال بشكل مزعج كما لو أن مقصده كان أن يؤلم . وبعيدا عن الحصول على مكاسب أجبته : نحن ندفع مبالغ كبيرة كل سنة على شكل إعانات حكومية ومنح للتطوير ، نظر إلي وهو يعطيني جانب وجهه وابتسم ثم اتسعت ابتسامته إلى ضحكة ساخرة ومجاملة ، ثم قال : هل عليه ان يصدق بان الحكومة البريطانية موجودة في الجنوب العربي لتطويره وعلى نفقتها من دون مقابل ؟ ،
فبالنسبة لحكومة تفعل ذلك لشعبها فالأمر مفهوم ، أما ان نوحي بأننا ننفق صدقة على شعب في الطرف البعيد من الأرض وليس لدينا معهم أي شي مشترك فهذا أمر غير منطقي . ثم قال : هيا أقر بذلك " أنت تعرف جيداً بأنكم تجنون مالاً من عائد قطننا " هذا كان الأول من العديد من النقاشات العبثية التي لا طائل وراءها ومع وجود صحائف الحسابات والموازنة كإثبات ، حاولت إقناعه بأننا لسنا مختلسين حتى فلس واحد من أموالهم . عندما كنت اتكلم كان يعطيني جانب وجهه مع ابتسامه تتسع بين الحين والآخر إلى ضحكة غير مصدقة
وطنيته المنفتحة لم تنته عند الخصومة معي ومع ضباطنا السياسيين ، بل إنه ظهر لدى العامة كنصير لحقوق الشعب ضد اضطهاد لجنة أبين, الحقوق التي كان يهتم بها بنفسه وهي ما يحصل عليه الفلاحون مقابل محصول القطن الذي يزرعونه ، وهي تتغير من سنة لأخرى تبعاً للسعر الذي يباع به المحصول وتبعاً لكلفة تشغيل البرنامج والمبالغ التي كانت اللجنة ترصدها كاحتياطي للتطوير المستقبلي . ولان سوق القطن كان رائجاً ، فان مستوى العائدات كان في ازدياد ولا يوجد أي سبب يجعلنا نخشى من أن تمسح بسمة الرضا من على وجه أبين .
إلا أن الذي أزال تلك البسمة هو البرنامج المماثل الذي ساعدنا علي (يقصد علي عبد الكريم ) على إنشائه في لحج بقرض ثم تموينه من ابين . وبرنامج لحج يتميز بانه قد أخذ نظام الري الجاهز مع بعض التعديلات ، ولم يكن بحاجة كأبين للطاقم الفني والاختصاصي الأوروبي ، ولا لاسطول البلدوزرات والتركترات ، ولا للمقتنيات البشرية والمادية الاخرى الموجودة في ابين ، وليست كأبين بحاجة لصيانة القنوات والسدود وضفاف الوادي والورش والمكاتب وسكن العاملين والمواصلات ، وكلفة تشغيل البرنامج في لحج كانت أقل لان اللجنة بكاملها مكونة من مدراء عرب والذين كانوا اقل اهتماماً في اتجاهاتهم فيما يخص رصد ميزانية للتطوير والاحتياط . لذلك فما كان متاحاً لتوزيعه على المزارعين كان يعد نسبياً أعلى من ذلك الذي يتم توزيعه في ابين ، وكان هذا الأمر بالنسبة لمحمد عيدروس كإثبات دامغ على مغالطتنا الاستعمارية .
هل في لحج رجال أما في ابين فهم مجرد نعاج ، وفي لحج الاستعمار بقي خارج الموضوع ، أما في ابين فقد سمح لهم أن يديروا الأمر . وماذا كانت النتيجة ؟
الجواب كان هناك بالجنيهات الوشلجنات وباستطاعة أي كان ان يلمس ذلك بالفرق الذي يحصل عليه المزارعون بين كل من لحج وابين ثمناً لقطنهم .
لقد تيقنت أن مثل هذه الاطروحات والأحاديث كانت تأتي من الرابطة ( يقصد رابطة الجنوب العربي) .
في فبراير 1956م اصبح محمد قلباً وروحاً معهم ويفاخر بالشعبية التي كسبها بجهوده لاستخلاص عائدات اكبر من اللجنة لصالح المزارعين . لقد بزغ كقائد وطني يردد شعارات الرابطة ويطالب بالاستقلال وإقامة نظام فدرالي ، ومنح حمايته لعدد من الاحتجاجات المناهضة للاستعمار التي قامت تضامناً مع تلك التي حدثت في لحج .
المواضيع المباشرة التي على أساسها بدأ في تحديه لنا ، كانت ما يدفع للفلاحين وإدارة لجنة أبين ، مطالباً بالدفع لهم بنفس النسبة التي يتم الدفع بها في لحج ونقل الإدارة الى أيدي عربية ، وهي مطالبات تصدرت الصفحة الأولى من صحيفة الرابطة الصادرة في عدن وأذيعت باهتمام من إذاعة القاهرة وإذاعة صنعاء. ويستطيع المرء أن يحكم عندما يسمع الأولاد الصغار في عدن ولحج وابين يهتفون " يعيش محمد عيدروس " بأنه وبمعيار الشعب قد أصبح بطلاً قومياً.
لقد كنت متوقعاً بأن أحضى بأبرد التعليقات من قبل زملائي البريطانيين في اللجنة مثل " لقد نبهناك كثيراً " وكذلك تنبأ الزملاء الأوروبيون المنسحبون بالتدهور الكامل لبرنامج ابين إن لم يتم التعامل بصرامة مع محمد عيدروس .
لاشيء يغيظ أكثر من أن يقال لك بأن تكون حازماً ، كما وكأنه لا يوجد شيء يجعل المرء يغضب بدلاً من أن يبتسم . إذا رفضت مطالب محمد دون تحفظ هل سيحكم علي بأنني منشغل بالإشارات التافهة مما يحتم صداماً مباشراً مع حكومتي السلطنتين والرأي العام ، ولدينا ما يكفينا في هذا الوقت . وبدلاً من المخاطرة بمواجهة في الغالب وعلى الأرجح غير ناجحة مع الوطنيين ، فقد نظرت الى الأمور بشكل أفضل واتخذت بعض القرارات ، بالرغم مما ظهر من تحذيرات حول تأثيرها على التطور في المستقبل . لذلك راجعنا مستوى المدفوعات ، ولاحقاً راجعنا موضوع تركيبة لجنة ابين ايضاً.
بالطبع هذه القرارات تم الادعاء على أنها انتصارات سياسية لمحمد عيدروس . إلا ان شعبيته لم تكن شاملة ، فخلال العام 1956م بدأت المعارضة تتكون ضده في سلطنة الفضلي المجاورة حيث نظر الى ارتفاع مكانته السياسية بالاستنكار والغيرة .
وقد كان هناك نزاع مستمر بين السلطنتين على الحدود وعلى مياه الري من السيول وأمور اخرى ، ولا يلزم المرء ان يكون حاد الذكاء ليعرف بأنه كلما زاد وزن محمد عيدروس السياسي فان ميزة ذلك سيعود على يافع السفلى . لكن الامر المقلق المباشر للمؤسسة الفضلية هو خطر التدخل في شؤونهم الداخلية . حيث توجد هناك دلائل بأن محمد عيدروس كان كبيرا جداً بالنسبة ليافع السفلى وفي اكثر من مناسبة قام بالتقرب من بعض العشائر الفضلية بقصد واضح لتجنيد اتباع على طريقة علي عبد الكريم واهل أبو بكر بن فريد .
ولا أحد كان يحس بهذا التهديد اكثر من أحمد بن عبد الله ، الذي حكم السلطنة باسم السلطان ، الذي اشار عليه " سيجر " بالنفي الطوعي الى الريف ، وكان بنفس عمر محمد عيدروس ، لكنهما كانا مختلفين عن بعضهما بشكل كبير . فقد كان لديه مخزون من المرح والوقاحة ، ومخزون من الأقوال المكررة والتلاعب اللفظي المتعد للذوق وكذلك الملاحظات الساخرة ، ولديه ازدراء وقح للعادات والمسؤولية ورغبة لخرق هيبة المناسبات الجدية . وهو بالنسبة للبعيدين يهتم بشكل غير ثابت بالحكايات والأمور قليلة الأهمية . لكن اولئك الذين عرفوه عن قرب فلديهم أسبابهم لان يحترموه ، فلديه مقدرة شخصية غير مألوفة في الجنوب العربي للتشمير عن ساعديه والنزول الى موقع الحدث ليعمل ويري الأشياء بنفسه ، وبينه وبين محمد عيدروس جو ثقيل من الكره الشخصي والاختلاف السياسي ، ويرى في الرابطة حصان طراودة فهو يقول : " إن رابطة الجنوب العربي اسم مغلوط وإنه ليس من الجيد تمرير حمار على إنه خيل أصيل ، سموها كما هي عليه - رابطة لحج والجفري ومحمد عيدروس وبعد ذلك أسأله إن كان يرغب بها في سلطنته .
بالرغم أن الرابطة قد أثارت بعض المظاهرات المزعجة في الجزء الفضلي من ابين، إلا انه كنتيجة لذلك لم ينظم اليها احد ، وكان قائدها شخص هزيل وجائع من فروع أولاد عم " الدولة " . وفي صحيفة الرابطة نشر على انه "الأمير الحافي" وكفاه أن وجه إليه احمد بن عبد الله اصبعه محذراً ، فتوقفت المظاهرات وظهر الأمير الحافي في مكتبي مشتكياً من أن الرابطة قد اوقفت عليه راتبه.
بعد ذلك بوقت قصير دعيت رجال قبائل الفضلي الى البيضاء وبعدها بقليل انفجر التمرد . كان أمراً متوقعاً أن يهاجمنا اليمن بعد رفضنا الترحيب بمقترحات الشامي الجديدة ، لكنني كنت أتسآل إن كان مصادفة أن تكون الأهداف بيحان والعواذل والضالع والآن الفضلي ، ولماذا لحج وبحدودها الطويلة والمكشوفة والتي تمثل هدفاً مناسباً بقيت بشكل غريب غير متأثرة بالاهتمام اليمني. كيف صار ان شيخ العلوي - وهو المعروف عنه بأنه تابع للحج والذي لا يعمل شيء دون إشارة من علي عبد الكريم – ينقض ويصبح متمرد ؟ .
يبدو أن الرياح أصبحت تحمل معها أي كم من القش في نفس الإتجاه ، وبناء على النصيحة المصرية بأن على علي عبد الكريم والرابطة التعاون مع اليمن لتدمير عدوهم المشترك.
كنت مهتماً شخصياً لأن أتأكد أن ذلك لم يكن حقيقياً ، لكن وبسرعة تلاشت اخر آمالي الضعيفة.
القوافل التي كانت تنقل التعزيزات والتمويل الى الضالع إثر مقتل الدرويش كانت تحتجز وبشكل مستمر في لحج من قبل حشود من الناس مجتمعة وموجهة من قبل مندوبين معروفين بالرابطة. وفي كل مره ياتينا نفس التقرير الكئيب عن راشقي الحجارة والشتائم التي توجه والشرطة اللحجية التي ترفض التدخل .
فيما بعد وعندما اشكو من ذلك ، كان علي عبد الكريم يرد علي بإنه من السخف ان اعمل مثل هذه الضجة من أجل عدد من أطفال المدارس يستخدمون الحماس الوطني. ولا يوجد اكثر من ان يهز المرء كتفيه ليفعله . ومرات اخرى نشكو بعد عدد من الأحاديث التالية لعله يعمل شيئاً لوقفهم.
وهكذا استمررنا الى أن أتى يوم كانت التعزيزات للضالع مطلوبة فيه بشكل مستعجل ، فوجهت الضابط المسؤول في حرس الحكومة ليعجل وصوله الى هناك ودون عمل أي حساب للتوقف في الطريق.
عند الوصول الى لحج كانت طريقهم مرصوصة بحشد من الناس ولانه فشل في إقناع الشرطة اللحجية لتفرقتهم فقد قام حرس الحكومة بذلك العمل بأنفسهم ،
وهكذا استمرت القافلة في طريقها .
توقعت اعتذاراً من علي عبد الكريم ، ولكن بدلاً من ذلك استلمت احتجاجاً متشنجاً على ما وصفه بانتهاكنا لسلطته مطالباً بأن ابقي " الجستابو" التابع لي ملتزماً بالنظام. بعد ذلك لم نشاهد بعضنا إلا قليلاً وعندما يتم ذلك كان تحادثنا خاطفاً وكذلك إبتساماتنا .
في مايو 1957م أمكن لعلي عبد الكريم والرابطة أن يستريحوا قليلاً من تلاحق الأحداث ، وعلى حدود العواذل وبيحان لم يحقق اليمن أي شيء ، وفي الضالع التمرد يخفق ، وشيوخ العلوي والمفلحي والقطيبي عادوا الى الحضيرة، وفي مشيخة العوالق العليا آل أبو بكر عادوا وانطووا على أنفسهم بعد اختيار الأمير عبدالله.
وفي الفضلي انتهى التمرد بدون صعوبة أو سفك دماء. ولم يتعرض أحد من خصومهم لأقل ضرر ولا الباقين من أنصارهم .
فقط وحده محمد عيدروس ظل واقفاً على قدميه ، والآن عليه أيضا أن يسقط .
بالرغم من انتكاسة الرابطة مع أهل فضل إلا أنها في البداية لم تأثر على موقعه في المنطقة اليافعية من أبين. ومع بداية عام 1957م، كانت هناك دلائل على أن أعضاء مجلس سلطنة يافع السفلى قد أصبحوا نافذي الصبر والمجلس اساساً تم إنشاؤه بمبادرة من " هرتلي " لتمكين الجزء الواقع في أبين من يافع من السلطة السياسية في الوقت الذي أشير فيه على السلطان (يقصد السلطان عيدروس) بمغادرة هذا الجزء .
لقد قبلوا بتردد واضح بتعيين محمد عيدروس كنائب، خائفين من أن يمهد ذلك الطريق لعودة السلطان (يقصد السلطان عيدروس ) ، ومعاقبتهم لتعاونهم مع " هرتلي" ضده .
السلطان عيدروس كان شخصية غريبة الأطوار ومرعبة، ومن لايعرفه سيعتقد بأن خوفهم لا مبرر له ، وفي هذا الوقت أصبح رجلاً كبيراً السن ، ومتمسكاً بشكل فريد وغريب من الملابس والتصرفات. ملابسه كانت تخاط جيداً مع تشكيلة من الرداء غير العادي يفصل من المخمل المطرز بالفضة والترتر بتصاميم بالكامل خاصة به.
وبالرغم من أنه عادة كان يضع العمامة على رأسه، إلا أنه في بعض الأحيان يلبس قبعة لماعة من تصميمه مشابهة أو هي مزيج من قبعة المهرج وتاج الأسقف. له نظرات متوحشة ومرعبة، وهو عديم القدرة على الحديث بشكل طبيعي، وهو عندما لا يكون راضيا يتحدث بشكل عنيف وينهمك بحماس إلى حد أنه في بعض الأحيان يلاحظ الزبد واضحاً على جانبي فمه .
يعتقد في منطقة القبائل الجبلية الموحشة أن له قدرة موروثة على إنزال المطر . وشخصيته الخطرة أكدت له احتراماً وتأثيراً بلا حدود .
سيكون لشخصه وضعا مضحكا في أبين إن لم يخافوا منه ، ليس بسبب خصوصية سلوكه لوحده ولكن بسبب وقوفه مع القبلية المتوحشة التي أنقذ " هرتلي" أبين منها.
كنت أعرف بتوجسات المجلس ( يقصد مجلس السلطنة) لكننني لم أتوقع منهم أن يخاطروا بالصدام مع محمد عيدروس. والصدع الذي حدث بينهم ، حدث بشكل غير متوقع مثل شرخ صغير توسع في ظرف ليلة وضحاها الى شق عميق. لقد بدأ ذلك عندما قدم محمد عيدروس تقريراً أشار فيه إلى ان جزءاً صغيراً من قبيلة يسكنون الجبال قرب ابين قد رفضوا ان يقبلوا في بعض ما حكم حول خلاف على ملكية ارض، وإن احد اعضاء المجلس وهو الشيخ بالليل ، ذهب والتحق بهم كنوع من التعاطف معهم وسألني : هل يمكنني إن أوجه سلاح الجو الملكي لضربهم كي ينصاعوا ، طلب مني ذلك وهو يطرق بإصبعه السبابة على طاولتي ، قلت له : أن الأمر لا يتطلب مثل هذه المبالغة في استخدام القوة ، وعلى كل حال سأقنع بالليل ليأتي ونتحدث في الموضوع .
وبابتسامة صارمة رد علي محمد " يبدو أنكم تنوون خرق المعاهدة معنا "ثم أضاف إن المعاهدة تلزمنا بمساعدته عندما تكون هناك حاجة إليها ، ولأنني قد رفضت طلبه فقد خرقتها.
قلت له : " تعالى ، تعالى، متجاهلاً تلك السخافات التي قالها " دعني استدعى بالليل وسنقابله مع بعض ونحل المشكلة بسلام
ظهر انه اقتنع ولكن بسوداوية ، وفي ظرف يوم أو اثنين أتى بالليل شيخ وكل شيء تم تسويته بيننا ودياً.
وبعد مغادرة بالليل ، أخذت محمداً من ذراعه وسألته : ألا توافق بأنها الطريقة الأفضل لتسوية الموضوع بدلاً من القصف.. أجابني : لاشك في ذلك بالنسبة لك ولكن فيما يخصني فإن ذلك يعني سواد الوجه، وسأغادر ابين الآن إلى المنطقة الجبلية. وسألته متى يعتقد انه سيعود ، فدر علي : عندما تتغير الظروف قال ذلك وهو يصافحني مجاملاً ، ولم أشاهده بعدها .
مرت الشهور ولم يعد او يرسل أي رسالة، وفي نفس الوقت فان الشخص المفوض من قبله للعمل الإداري في ابين قد رفض التعاون مع مجلس السلطنة ومع لجنة ابين مدعياً بان الأوامر تعطي فقط من محمد عيدروس . ولان محمداً لم يعط أوامر فقلن يعمل أي شيء .
لقد كان الوضع مستحيلاً ، وواضحاً انه قد رسم من قبل محمد ليكون مؤلماً.
ولان هناك عدم ملائمة في التساهل، وتعزز ذلك من خلال التقارير التي أكدت بأنه يتواصل مع اليمن. ولم يبق الا خيار واحد للخروج من المأزق ، وهو بتعيين نائب جديد بدلاً عنه. وقد تم تجاوز اعتراضات السلطان المتشجنة عن طريق النصح وعندما عرض الامر عليهم، قام المجلس في الحال بانتخاب واحد منهم كنائب كان أملنا ان ذلك يعني النهاية لكن الأمر لم يكن كذلك .
ففي ظرف يوم من تعيين النائب الجديد ، نزل محمد عيدروس الى أبين كغازي على رأس حشد من القبائل الشعث المسلحين، وبعد فوضى وحشية في المنطقة انسحب آخذاً معه ممتلكات السلطنة ، الخزينة والحرس القبلي وتقريباً جميع الموظفين .
صحيفة الرابطة علقت على ذلك بقولها : ان الشعب خلف محمد عيدروس ، وهذا هو ردهم على الاستعمار.
السلطان عيدروس سئل بابتسامة عريضة : ماذا سيحدث لابين بدون محمد عيدروس، فلا توجد إدارة ، وغياب السلطة السياسية سيدمر برنامج ابين، وماذا بخصوص ارباح القطن.
كانت عيناه تتراقص من الحيوية في مقابل الإحباط الذي لدي كنا في وضع غير مريح على الإطلاق.
هل يستسلم المجلس لوابل التهديدات التي كانت توجه إليه وتنسب إلى محمد عيدروس. لم يكن لدينا الخيار إلا ان نواجه الأحداث غير المرغوب فيها وربما المأساوية وللصفعة السياسية المدوية على الوجه في حالة وقوفهم متماسكين .
ولم يكن هذا الحال كافياً لوحده ، فالسلطان عيدروس يذكرني بألم بأن يافع السفلى بدون موارد مالية ولا قوة شرطة ولا إداريين. وفوق كل ذلك ولزيادة مصاعبنا بدأ فدائيو محمد عيدروس كما تصفهم إذاعة القاهرة – بدأوا يغيرون على ابين بعمليات تخريب منقطعة النظير.
عدم اليقين والأمان وتهديد غياب السلطة السياسية كلها فوق ابين كنسور تحوم على جثة .
الامر ترك ل" روبين ينج " ليتعامل مع الوضع القبيح ، وهو بشخصيته القوية وقف كصخرة في وسط مجرى طوفان المشاكل.
تمت المحافظة على النظام وظهرت إدارة جديدة.
وبعد فترة قصيرة اختفى فدائيو محمد عيدروس . والناس الذين بقوا يشاهدون عن بعد لاحظوا اتجاه المد فاقتربوا، ولم يعد هناك مزيد من أزمات ناصر ( جمال عبدالناصر ) ولا " يعيش محمد عيدروس"
((المترجم مجهول))
من /موسوعة جعار الثقافية الاجتماعية الزراعية