كتب /د.عيدروس نصر
"وكلْ ما ميَّتوني
كنت أخلقْ من جديد
ومن موتي
عرفت ان الحياة
للذي ما مات مثلي
مش حياة"
بهذا المنظور الجدلي لثنانية الموت والحياة عاش الفقيد الشاعر المرموق والأديب الكبير الدكتور سلطان سعيد حيدره شمسان الصريمي، عاش الحياة الملأى بالعطاء والكفاح والنضال المتواصل على مدى أكثر من سبعة عقود عند ملتقى قرنين اكتسحتهما التغيرات الهائلة والتحولات الكبرى بما فيها من سراءٍ وضراءٍ وما حوتها من انتصاراتٍ وهزائمَ، وأفراحٍ وأتراح.
فالموت من هذا المنظور الجدلي ليس فقط مفارقة الروح للجسد، بل يمكن أن يكون كتم الصوت، وخنق أنفاس الحرية والانعزال عن الناس وهمومهم ومعاناتهم، أو التعالي على أجزان الوطن وأفراحه والاكتفاء بالعيشه البهيمية القائمة على أشباع الغرائز بعيداً عن الانغماس في ما تعنيه أنت للناس كإنسان، كما إن الحياة لا تنحصر بالضروة في بقاء الإنسان ككائن حي يتنفس ويتغذى ويتعاطى الحاجات الجسدية الوظائف الغريزية للكائنات ما دون الإنسان، بل إنها رحلة تفاعل وعطاء وانصهار في حياة الناس ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، ومقاسمتهم آلامهم وأحلامهم، فشاعرنا الكبير لم يقبل الموت المفروض عليه من أطراف الاستقواء والقمع، بل تمسك بحياته وظل يبعث حياً كلما حاولوا إخراس صوته، وسيبقى حياً بعطائه وتاريخه المميز، رغم انفصال الروح عن الجسد.
* * *
على مدى أشهر متواصلة تابعت الاوساط الأدبية والثقافية والفنية الحالة الصحية للأستاذ الدكتور سلطان الصريمي، وهو يتنقل بين المستشفيات من القاهرة إلى صنعاء حتى استقر به الحال في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء التي أمضى فيها عدة أشهر حتى فارق الحياة يوم امس الاول الاثنين 30 ديسمبر اليوم قبل الأخير من العام 2024م، وكأن هذا العام البائس المحتشد بمختلف أشكال المآسي والآلام والمواجع وجميع أسباب الأسى والبؤس، يأبى ألّا يفارقنا إلا بجرعة حزنٍ إضافية يتوج بها أحزاننا الكثيرة والمتشعبة.
منذ أيام كنت على تواصل مع نجله غسان، الذي أبلغني بعد أيام من المتابعة أن أباه في تحسن وأنه خرج من غرفة الإنعاش وانتقل إلى غرفة عادية، وتابعت لقطات واخبار عن زيارات ولقاءات معه من قبل الكثير من القادة السياسيين والمثقفين والأدباء ومواطنين كثيرين من محبيه والمعجبين بعطاءاته الادبية والفنية ومواقفه السياسية، وهو ما ولد لدي شعوراً بالطمأنينة بأن دكتورنا العزيز يتجه نحو استعادة عافيته، لكن القدر كان يترصده كي يخطفه من محبيه كما يترصد الصياد فريسته، وتلك هي الإرادة الإلهية التي لا مفر لبشر منها.
* * *
د سلطان الصريمي كأديب وشاعر ينتمي إلى جيل الستينات وما بعدها، لكنه لم ينل ما يستحق وربما أقل مما يستحق من الشهرة والذيوع إلا بعد قصيدته الغنائية الشهيرة "نشوان" التي لحنها وغناها الموسيقار الشهير الأستاذ محمد مرشد ناجي (عليهما رحمة الله ومغفرته) في العام 1979م.
بيد إن أعماله الشعرية بعامة والغنائية على وجه الخصوص تسبق نشيد نشوان بسنين، فقد بدأ ينظم قصائده الأولى وهو ما يزال في مرحلة الشباب المبكر وامتازت قصائده بالتعبير عن هموم الفلاح البسيط ومعاناة المرأة عامةً والمرأة الريفية بشكل خاص كأغنيات "واعمتي منو شقول لمسعود"و "باكر ذري" وغيرهما.
* * *
صدر لفقيدنا الشاعر الكبير د. سلطان الصريمي الأعمال الشعرية التالية:
1. أبجدية البحر والثورة، وهي قصيدة في ديوان، عبا رة عن أوبريت غنائي غنته فرقة الطريق العراقية في قالبٍ ملحمي جميل.
2. هموم إيقاعية.
3. نشوان وأحزان الشمس.
4. قال الصريمي، وهو، مجموعة شعرية أشبه بشعر الزوامل، عبارة عن مقاطع قصيرة نشرت قبل صدورها، في عموده الأسبوعي (قال الصريمي) على صحيفة الثوري وصحف أخرى.
5. زهرة المرجان
6. هواجس الصريمي
7. أبجدية الربيع.
وقد غنى للشاعر الأستاذ سلطان الصريمي العديد من الفنانين منهم الفنان أيوب طارش "أغنية تليم الحب" ومحمد مرشد ناجي، والفنان العراقي حميد البصري وفرقته فرقة الطريق العراقية أوبريت "أجدية البحر والثورة" وكل من نجيب سعيد ثابت ومحمد صالح شوقي، لكنه منذ الثمانينات شكل ثنائياً غنائياً متميزاً مع الفنان المعروف "عبد الباسط عبسي"، عنى له عبد الباسط مجموعة كبيرة من الأغاني منها: أذكرك، يا صباح الباكر، باكر ذري، عروق الورد، واعمتي، متى واراعية، وغيرها الكثير.
* * *
لقد مثلت وفاة الشاعر الكبير الدكتور سلطان سعيد الصريمي، صاحب الموسوعة الغنائية الجميلة والعطاء الشعري الغزير والموقف السياسي والاجتماعي المتميز خسارةً كبيرةً على الوسط الثقافي والأدبي والفني في عموم البلاد، في عامٍ يكتظ بالأحزان والمآسي والألام من كل صنفٍ ونوع.
إنني حزينٌ لفراقك يا صديقي وأستاذي ورفيقي العزيز، فمن يملأ الفراغ الكبير الذي تركته بغيابك، ومن سيتحدث بعدك باسم الفتاة التي اشتكت "مسعود هجر وخلف المصائب" ومن سيحرض نشوان كي "لا تفجعه خساسة الحنشان"، ومن سيشد أزر الفلاحة لينبهها إلى موسم البذر "باكر ذري" ؟
لقد أحزن غيابك محبيك، وأصابتهم الدهشة والفجيعة الحقيقية، بهذا الغياب المؤلم.
لقد عشت كبيراً ومتِّ كبيراً، وستبقى خالداً في ذاكرة محبيك إلى أبد الآبدين بخلود نضالك وعطائك الجميل الذي تغلغل في وجدان الملايين من أبناء شعبك.
في هذه اللحظات الحزينة لا يسعني إلّا أتوجه، بأصدق مشاعر العزاء والمواساة إلى أولاد الأستاذ د. سلطان الصريمي وجميع أفراد أسرته وأقربائه وكل أهله وذويه، والعزاء موصول لجميع أفراد الأسرة والمؤسسات والهيئات الثقافية والأدبية والفنية وملايين محبي الفقيد على طول الساحة الوطنية.
أبتهل إلى الله العلي القدير أن يرحم شاعرنا الكبير ويغفر له ويتوب عليه ويسكنه فسيح جناته، ويلهمنا وجميع أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
إنا لله وإنا إليه راجعون
د.عيدروس نصر
شيفيلد المملكة المتحدة
31 ديســـمبر 2024م